[b]قال الأمام ابن القيم رحمه الله تعالى : وأما مفسدات القلب الخمسة ,فهي التي
أشار إليها من كثرة الخلطة , والتمني , والتعلق بغيرالله , والشبع , والمنام .
فهذه الخمس , من أكثر مفسدات القلب .
المفســـــد الأول من مفسدات القلب كثــرة المخـالطـــة
فأما ماتؤثره كثرة الخلطة : فامتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتي يسود , ويوجب له تشتتاً وتفرقاً وهما وغما وضعفا وحملا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء وإضاعة مصالحه والاشتغال عنها بهم وبأمورهم وتقسم فكره فى أودية مطالبهم وإراداتهم . فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة ؟
هذا , وكم جلبت خلطة الناس من نقمة وأنزلت من محنة وعطلت من منحة وأحلت من رزية وأوقعت فى بلية وهل آفة الناس إلا الناس ؟
وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة فى الدنياوقضاء وطر بعضهم من بعض - تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة وبعض المخلط عليها يديه ندما كماقال تعالى :
" ويوم يعض الظالم على يديه يقول يليتني اتخذت مع الرسول سبيلايويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جاءنى " سورة الفرقان الآيات: 27-29
وقال تعالى :
" الأخلاء يومئِذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " سورة الزخرف الآيه67
وقال خليله إبراهيم لقومه :
" إنما اتخذتم من دون الله أورثنا مودة بينكم فى الحيوة الدنيا ثم يوم القيمة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأوئكم النار وما لكم من نصرين " سورة العنكبوت الآيه 25
وهذا شأن كل مشتركين فى غرض ,يتوادون متساعدين على حصوله فإذا انقطع ذلك الغرض أعقب ندامة وحزنا وألما وانقلبت تلك المودة بغضا ولعنة وذما من بعضهم لبعض .
والضابط النافع فىأمر الخلطة : أن يخالط الناس في الخير - كالجمعة والجماعة والأعياد والحج وتعلم العلم والجهاد والنصيحة ويعتزلهم فى الشر وفضول المباحات .
فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم فى الشر ولم يمكنه إعتزالهم :فالحذر الحذر أن يوافقهم . وليصبر على أذاهم فإنهم لابدأ أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر. ولكن أذى يعقبه عز ومحبة له وتعظيم , وثناء عليه منهم , ومن المؤمنين ومن رب العالمين وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له ومقت وذم منهم ومن المؤمنين ومن رب العالمين فالصبر على أذاهم خير وأحسن عاقبة وأحمد مالا. وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم فى فضول المباحات فليجتهد أن يقلب ذلك المجلس طاعة الله إن أمنكه.
المفســد الثاني من مفسدات القلب ركوبه بحر التمني
وهو بحر لا ساحل له وهو البحر الذى يركبه مفاليس العالم كما قيل : إن المنى رأس أموال المفاليس. فلا تزال أمواج الأمانىالكاذبة والخيالات الباطلة تتلاعب براكبه كما تتلاعب الكلاب بالجيفة وهى بضاعة كل نفس مهينة خسيسة سفلية. ليست لها همة تنال بها الحقائق الخارجية. بل اعتاضت عنها بالأماني الذهنية . وكل بحسب حاله : من متمن للقدرة والسلطان وللضرب فى الأرض والتطواف فى البلدان أو للأموال والأثمان أو للنسوان والمردان فيمثل المتمني صورة مطلوبه فى نفسه وقد فاز بوصولها والتـَذ بالظفر بها فبينما هو على هذا الحال إذ استيقظ فإذا يده والحصير !!
وصاحب الهمة العلية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان والعمل الذي يقربه إلى الله ويدنيه من جواره فأماني هذا إيمان ونور وحكمة وأمانى أولئك خدع وغرور.
وقد مدح النبى صلى الله عليه وسلم متمني الخير وربما جعل أجره في بعض الأشياء كأجر فاعله.
المفسد الثالث من مفسدات القلب التعلق بغيرالله تبارك وتعالى
وهذا أعظم مفسداته على الإطلاق . فليس عليه أضر من ذلك ولا أقطع له عن مصالحه وسعادته منه فإنه إذا تعلق بغير الله وكله الله إلى ما تعلق به وخذله من جهة ما تعلق به وفاته تحصيل مقصوده من الله عز وجل بتعلقه بغيره والتفاته إلى سواه فلا على نصيبه من الله حصل ولا إلى ما أمله ممن تعلق به وصل .
قال الله تعالى: " واتخذوا من دون الله ءالهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونوا عليهم ضدا "
مريم من الآيه 81 : 82
وقال تعالى : " واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون " يس الآيه 74 : 75
فأعظم الناس خزلا نا من تعلق بغير الله فإن ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به وهو معرض للزوال والفوات ومثل المتعلق بغير الله : كمثل المستظل من الحر والبر د ببيت العنكبوت أوهن البيوت.
وبالجملة : فأساس الشرك وقاعدته التى بني عليها : التعلق بغير الله . ولصاحبه الذم والخزلان كما قال تعالي :
" لا تجعل مع الله إلها ءاخر فتقعد مذموما مخذولا " الإسراء آيه 22
مذموما لا حامد لم : مخذولا : لا نا صر لك
إذ قد يكون بعض الناس مقهورا محمودا كالذى قهر بباطل وقد يكون مذموما منصورا كالذى قهر وتسلط بباطل وقد يكون محمودا كالذى يمكن ملك بحق والمشرك المتعلق بغيرالله قسمه أردا الأقسام الأربعة لا محمود ولا منصور .
المفسد الرابع من مفسدات القلب الطعام
والمفسد له من ذلك نوعان :
أحدهما : ما يفسده لعينه وذاته كالمحرمات
وهى نوعان :
محرمات لحق الله : كالميته والدم ولحم الخنزير وذى الناب من السباع والمخلب من الطير.
ومحرمات لحق العباد : كالمسروق والمغصوب والمنهوب وما أخذ بغير رضى من صاحبه إما قهر وإما حياء وتذمما.
الثانى : ما يفسده بقدره وتعدى حده كالإسراف في الحلال والشبع المفرط فإنه يثقله عن الطاعات ويشغله بمزاولة مؤنة البطنة ومحاولتها حتى يظفر بها فإذا ظفر بها شغله بمزاولة تصرفها ووقاية ضررها والتأذي بثقلها وقوى عليه مواد الشهوة وطرق مجاري الشيطان وسعها فإنه يجرى من ابن آدم مجرى الدم فالصوم يضيق مجاريه ويسد طرقه والشبع يطرقها ويوسعها ومن أكل كثيرا شرب كثيرا فنام كثيرا فخسر كثيرا وفي الحديث المشهور :
" ما ملأ آدمي وعاء شر من بطنه بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا بد فاعلا فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه ".
الترمزي وأحمد و الحاكم وصححه الألباني .
المفسد الخامس من مفسدات القلب كثر ة النوم
فإنه يميت القلب ويثقل البدن ويضيع الوقت ويورث كثرة الغفلة والكسل ومنه المكروه جدا ومنه الضارغير النافع للبدن وأنفع النوم : ما كان عند شدة الحاجة إليه ونوم أول الليل أحمد وأنفع من آخره ونوم وسط النهار أنف من طرفيه وكلما قرب النوم من الطرفين قل نفعه وكثر ضرره ولا سيما نوم العصر والنوم أول النهار إلا لسهران.
ومن المكروه عندهم : النوم بين صلاة الصبح وطلوع الشمس فإنه وقت غنيمة وللسير ذلك الوقت عند السالكين مزية عظيمة حتى لو ساروا طول ليلهم لم يسمحوا بالقعود عن السير ذلك الوقت حتى تطلع الشمس فإنه أول النهار ومفتاحه ووقت نزول الأرزاق وحصول القسم وحلول البركة ومنه ينشأ النهار وينسحب حكم جميعه على حكم تلك الحِصةِ فينبغي أن يكون نومها كنوم المضطر .
وبالجملة فأعدل النوم وأنفعه : نوم نصف الليل الأول وسدسه الأخير وهو مقدار ثمانى ساعات وهذا أعدل النوم عند الأطباء وما زاد عليه أو نقص منه اثر عندهم فى الطبيعة انحرافا بحسبه.
ومن النوم الذى لا ينفع أيضا : النوم اول الليل عقب غروب الشمس حتى تذهب فحمة العشاء وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهه فهو مكروه شرعا وطبعا والله المستعان.