تواضعه و لين جناحه صلى الله عليه وسلم
عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ : (يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَك) فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا. رواه مسلم
عَنْ أُمِّ خَالِدٍ بِنْتِ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَتْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَبِي، وَعَلَيَّ قَمِيصٌ أَصْفَرُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - (سَنَهْ سَنَهْ).
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَهِيَ بِالْحَبَشِيَّةِ حَسَنَةٌ قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَلْعَبُ بِخَاتَمِ النُّبُوَّةِ فَزبَرَنِي أَبِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (دَعْهَا) ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي ثُمَّ أَبْلِي وَأَخْلِقِي) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَبَقِيَتْ حَتَّى ذَكَرَ. متفق عليه
* * *
إذا شرفت النفس كانت للآداب طالبة ، و في الفضائل راغبة ، فإن اقترن بها علو الهمّة ، و نبل الهدف كانت طيّبة الجنى ، وارفة الظلال ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها!
يقتات منها الصغير و الكبير، و يأوي إليها القوي والضعيف، والغني والفقير.
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس تلك النفس الخيّرة، آيةً في اللين والتواضع، ومثلاً في السماحة و اللطف، بالرغم من نفوذ سلطانه، و جلالة قدره، و انقيادهم لأمره، و توقيره و مهابته.
بل إن طاعته و محبّته مقدّمة على النفس و الأهل والمال و العشيرة...!
توافيه تلك المرأة (وفي عقلها شئ) في بعض الطرق الضيقة، المصطفة من النخيل، المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالبًا)، و تسأله حاجتها، و ما ثمّ لولا ما آنسته من الحبيب صلى الله عليه وسلم من تمام التواضع و القرب من المستضعفين ، ولينه في أيديهم ومشيه في حوائجهم، وتشوقهِ إلى إرضائِهم وسماعِ شَكواهُم وقضاءِ شُؤونِهم .
فيسعها النبي صلى الله عليه وسلم بعطفه المعروف و تواضعه المألوف ، ملبياً رغبتها بسخاوة نفس و تقدير (يَا أُمَّ فُلاَنٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حَتَّى أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَك) !!!
فللّه لين ذاع في الناس صيته و خفض جناحٍٍ طوّق الوعر والسّهلا
و تأتيه جارية صغيرة هي : أمَة (بمفتوحة وخفَّة ميم) بنت خالد بن سَعيْد بن العَاصِ ، تكنّى أم خالد، و تقترب منه لترسم صورة أخرى رائعة من التواضع و العطف النبوي .
نرى فيها النَّبي المربِّي - صلى الله عليه وسلم - و هديه القويم في رعاية الأطفال، وقربه من الصِّغَار، وتلقِّيهم بالبِشْر وسهولة الخلق.. والرحابة ...
وشفقته على البنات خاصَّة !. ألا ترى إلى عظيم تقديره لأم خالد واصطفائها من سائر القوم وتشريفها بهديته ... بعدما سأل الحضور من أصحابه عمن يستحقها ... وسكتوا حيرة فاستشرفوا لها وكانت تلك الجارية هي الجديرة بها قَالَ: (مَنْ تَرَوَنَ أَنْ نكْسُوَ هذه؟ فسكت القومُ، قَالَ: ائتوني بأمّ خالدٍ).
إنه يدعوها بكنيتها زيادة في إكرامها والاهتمام بها وجيء بها تحمل في -رواية– لحداثة سنِّها – (فَأَخَذَ الخَمِيْصَةَ – وهي كساء من خزٍّ أو صوف - بيده الشريفة فألبسه) إياها!
وبالغ - عليه الصَّلاة والسلام - في العطف عليها والإحسان إليها .. والبِّر بها. (فَجَعَلَ يَمْسَحُ الأعلام – وهي ألوانها البارزة الصفراء أو الخضراء – بيده ويقول مادحًا لها مثنيًا على جمالها وروعتها .. هذا (سَنَهْ سَنَهْ) بمعنى حسن، وما قالها الحبيبُ - صلى الله عليه وسلم - بالحبشيَّة، وهو العربيُّ الفصيح! إلا محاكاة لُّلغة التي ألفتها منذ طفولتها ... وتطييبًا لخاطرها وطمعًا في إدخال السرور والبهجة إلى قلبها.
ويَسْتمرُّ الحنانُ النبويُّ الدافئ ليحكي مشهدا مؤثِّرا من اللطف الغامر بتلك الصبية، دنت منه بعدما اطمأنّت لتواضعه ورحمته... لفت نظرها خاتم النبوة البارز بين كتفيه (كزرِّ الحجلة).. فَتَاقَتْ نفسُها إلى لمسه فطفقت تلعب به، مما أثار حفيظة والدها الذي نهرها بقسوة، فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: (دعه) فاستمرت تلهو به مرحًا مستأنسة برضى النبي - صلى الله عليه وسلم - مطمئنة إلى سماحته، ثم يختم اللقاء الطيب بدعواتٍ لها مباركةٍ يرددها ثلاثًا ويمتدُّ أثرها إلى أمد ذاك اللقاء بما يحويه من المعاني القيِّمة للتواضع وخفض الجناح، يمثل أنموذجًا من الدروس التربوية التي لها أكبر الأثر في بناء الشخصية العاطفية و تربيتها على التواضع ودماثة الخلق على نحو أفضل.
صلى الله على محمد صلى الله عليه وسلم